الإثنين , 7 أكتوبر 2024

العلامة المختار بن بونَ الجكني

المختار بن بونا الجكني
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد فبأمر من شيخنا الشيخِ علي الرضا بن محمد ناجي رئيس المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم حفظه الله ورعاه وأيده بنصره يتواصل تاريخ موريتانيا الإيجابي إن شاء الله تعالى، وسننشر اليوم ترجمة للعلامة المختار بن بونا الجكني، على بركة الله والله المستعان.
ترجمة العلامة المختار بن بونا الجكني:
هو بحر شنقيط الخضم، وبدرها الأتم، المختار بن محمد سعيد المعروف “ببونا” بن المستحي من الله بن اعل بن زلماط، ولد في بلدة “اكفليت” جنوب أبي تلميت وتوفي في “تباريت” بتكانت،
نشأ المختار بن بون في بيت علم وصلاح، واشتهرت قبيلته تجكانت بالفضل والبراعة في العلم حتى قيل “العلم جكني”، قال المختار بن حامد في حياة موريتانيا إن من الحكايات السائدة أنه كانت في “تنيكي” ـــ قرية مشهورة لتجكانت ــــ ثلاثمائة فتاة تحفظ الموطأ، وفي بعض الحكايات تحفظ المدونة، ويقول الشريف العالم القاضي محمد بن أحمدُّ بن عابدين بن اباه الشريف بن سيدي محمد الشريف الصعيدي في الإشادة بالجكنيين:
حي الأماجد من أقيال جاكانا
الأصبحيين من أذواء قحطانا
قوم إذا سيل عن علم وعن كرم
نادى المنادي بهم جاكان جاكانا
شيوخنا وشيوخ الناس قاطبة
فقها ونحوا وتوحيدا وقرءانا
يوم الزوايا تراهم في محاربهم
فوق الزوايا ويوم العرب عربانا.
لم يشتغل المختار بن بون بالقراءة إلا بعد أن كبر كما ذكر صاحب الوسيط، وقد وقعت له قصة الفتح المشهورة عند أحد شيوخه وحاصلها أنه نام نومة طويلة استيقظ بعدها وقد فتح عليه في العلوم حفظا وفهما، وشيخه الذي فتح عليه عنده هو المختار بن حبيب الجكني كما في الوسيط وغيره، وذكر العلامة محمد محمود بن اتلاميد أنه فتح له في النحو عند شيخه أشفغ انجبنان فقال في قصيدة له:
ولم يشعر المختار منشي احمراره
لنفع عباد الله من نحوه الطم
ولاشيخه انجبنان من كان عنده
له فتح الرحمن في النحو في الحلم
ولا ابن ابنه عبد الودود الذي غدا
له نحوه إرثا صباحا بلا قسم.
وكان المختار بن بون يتحلى مع هذا الفتح بالصبر والمثابرة والذكاء والعزم والهمة العالية قال في النونية:
حلمي وصبري يمداني ولي خلق
قد كان لي في جميع الناس عرفانا
ولي سريرة خير سيرتي حمدت
بهاء فضلي ذكائي منصبي صانا
وهمة دونها هام السماء ومن
همته دونها هام السما دانا
وهيبة ملئت منها القلوب فلو
نظرت شزرا إلى أقصى الورى حانا.
وفي الوسيط أنه استقى عزمه من نملة شاهدها تحاول الصعود ثم تكرر المحاولة مرات حتى استطاعت ذلك فعزم على أن لا يكون أضعف منها همة.
درس العلامة المختار بن بون على جماعة من شيوخ عصره منهم المختار بن حبيب الجكني، والمختار بن محمذن المعروف بأشفغ انجبنان الألفغي الحيبلي، ومحمد العاقل الديماني، وحبييب بن محمد الجكني، ومحمدا بن بوحمد المجلسي وابنه البدوي الشهير، وسيدي عبد الله بن محم المعروف بابن رازكة العلوي، ومحمذن بن ببان العلوي، والمختار بن باب حونن الحسني، وأشفغ المختار الشقروي، وممن أخذ عنه المختار أيضا جدتنا العالمة المشهورة غديجة بنت محمد العاقل وكان دولته حينئذ العلامة أحمد بن العاقل وعبد القادر الفوتي، وكان يخاطب أحمد بن العاقل بأخي الشيخة، وغديجه هذه هي التي كانت تقول استسهالا للأمر: “كالمنطق عندنا”، وألفت في المنطق طرتها المعروفة، وإليها يشير العلامة محمذن بن أحمد بن العاقل في قصيدة له في المآثر يقول فيها:
ومنا أسود الله تبذل أنفسا
ليظهر دين الله من هو جاحد
ومن يك للإبرام والنقض غيرنا
قديما وما ناء كمن هو شاهد
قواصدنا لا عن ضلال عزيزة
ودون أدانيها تكل القواصد
يسير علينا ما ينوء بغيرنا
كذلك للأعلين تنمى الفوائد
وما أقرأت قوما فلانة قبلنا
على عهد نجل البون ممن يشاهد
كما أخرجت حليا لنوم بنيها
سليلة سيف الله نعم المجاهد.
وقوله “سليلة سيف الله” يعني العالم المؤلف بِلَّ بن المختار بن عثمان وكان فقيها صالحا مشهورا قال العلامة والد بن خالنا في نظم التاريخ بعد ذكر وفاة الفاضل بن الكور بن سيد الفالل:
كذا ابن عمه الفقيه بلا
من بالعلوم والعلا تحلى
توفي سنة 1100هـ قال امحمد بن أحمد يوره مؤرخا لذلك:
وبلَّ والفاضل بن الكوري “شق” بنا
ذاك الرحيل الذي لله قد رحلا.
وقصة ابنته مريم قصة مشهورة ذكرها المختار بن حامد في نظمه لمآثر قومه فقال:
هذا جزاء عقد بنت بلهْ
وحل أخرى غيره أخ لهْ.
ورجح الأستاذ يحي بن البراء في كتابه “المجموعة الكبرى” أن المختار بن بون أخذ أيضا عن الفقيه مينحن بن مودي مالك بحسب بعض القرائن الوثائقية كما قال، وأردف قائلا: “وأما السند النحوي الموجود بأيدي تلامذته من مثل يحظيه بن عبد الودود ففيه أنه أخذ النحو عن علوي عن سوداني عن آخر عن الأشموني المصري”.
وسند يحظيه بن عبد الودود إلى المختار بن بون هو كما في الوسيط عند ذكر عبد الودود بن عبد الله بن ألفغ انجبنان الألفغي الحيبلي، قال يعني عبد الودود: “وهو شيخ محمد علي بن سيدي بن ساعيد بن عمه، ويعرف بمعي. وقد رأيت هذا الشيخ، وكان لا يبارى في النحو، وتخرَّج عليه الحسن بن زين القناني، وهو أحد فطاحل تلك البلاد، وعلى الحسن تخرّج أستاذنا سيبويه زمانه، يحظيه بن عبد الودود – حفظه الله – وهو وإن كان أصغرهم سنا، فقد اتفقت الناس على أنه فاق الكل في النحو، وانفرد عنهم بإتقان الفقه، وغيره من العلوم”، وفي الوسيط أيضا أن عبد الودود تخرج على بلا بن مكبد الشقروي الحسني الذي تخرج على المختار بن بونا، وقد نظمت هذه السلسة بقولي:
ونجل بون نهل الأجلَّا
من نحوه كالحسنيِّ بُلَّا
شيخِ الإمامِ العالمِ الأواهِ
عبد الودودِ نجلِ عبد الله
وذا عليه قد تصدر مَعِ
نجلُ سعيد اللوذعيُّ الألمعي
ومَعِ عادَ الحسنُ بنُ زينِ
من نحوه بِقرة العينينِ
وذا امتطي يحظيه سيبويهِ
زمانِه نُجْبَ العلا إليهِ.
وقال العالم المؤلف محمد يحي بن سيد أحمد المجلسي في تحقيقه وتعليقه على نظم ممُّ ابن عبد الحميد الجكني في حياة شيخه يحظيه :
“ويذكر العلامة محمد عال بن عبد الودود أنه كان ذات يوم هو وتلميذ آخر مع يحظيه يمشيان معه إلى جانب حيه وهم إذ ذاك عند الميمون، فوقف يحظيه وهما إلى جانبه بمنعرج كثيب الميمون وأمر التلميذ الذي لم يسم أن يحفر بيده ففعل حتى بلغ الحفر مرفقه فأخرج بقايا من رفات الزبل، فقال يحظيه: هذا زبل عجول المختار بن بونه وهنا كانت فروته ــ وهي بيت من الجلود ــ حيث كان ينظم احمرار الألفية، وفي الميمون هذا يقول المختار بن بونه الجكني:
تذكرت أياما لنا ومنازلا
عِذابا عذاب ذكرها حين تذكر
منازل بالميمون بعدي تغيرت
لها منزل في القلب لا يتغير”.
وقال في تحقيقه أيضا: “وكان محمد بن أبي مدين الديماني يقول إن النحو سرّه في “لبيرات” وذلك لأن بها كان يوجد المختار بن بونه، وبمنطقتها يوجد النحوي محمد عال بن سيدي “معِ” علما، ثم كان بها الحسن بن زين، ثم يحظيه بن عبد الودود”.
وبعد تضلع المختار بن بون بعلوم شيوخه هؤلاء وتصدره للتدريس شاع أمره في البلاد كلها فقصده الناس يستقون من علمه، قال في الوسيط: “ولما ظهر المختار بن بون، انتشر ذكره في ذلك الإقليم، فصارت الناس تنثال إليه من كل وجهة، وأرى الناس الطريق النافعة في التعليم، على أنه وجد العلوم في ذلك العصر حية”.
وتعد محظرة العلامة المختار بن بون من أكبر محاظر البلاد وأهمها لتعدد علومها وكثرة طلابها واختلاف جهاتهم فقد شملت الكثير من مناطق البلاد بسبب كثرة ترحال شيخها ذلك الترحال الذي قال فيه بعض طلابه:
لك اللهُ من شيخ إذا ما تبوأت
تلاميذه مأوى لنصب المدارس
تيمم ميمون الخصاصة فاترا
على ظهر مفتول الذراعين عانس
يفزع نون البحر طورا وتارة
يُهدم جحر الضب في رأس مادس.
وقال المختار بن حامد في ترجمته: “ولما شاع نبوغه بين الناس جعلت الطلبة ترحل إليه من البلاد الشاسعة، وكان حسن الصحبة والمعاملة للطلبة، جوادا بما يملك، إلا أنه قليل الإقامة فشق ذلك على تلامذته لتعطل الأوقات، وعدم من يقوم مقامه في التدريس، لأن الطريقة التي اخترع للطلبة لا يُقدر عليها”.
ولم تحل أسفار المختار دون تدريسه للعلوم، فقد اتخذ من ظهور العيس مدرسة يبين فيها دين الله تبيانا ويتلو فيها كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، قال في نونيته الرائعة المشهورة:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبيانا
نتلو كتاب إله العرش كل مسا
وكل يوم فمن نلقى توقانا.
ومن تلك المنازل التي كان ابن بون يسكب فيها العلم سكبا يروي به غليل طلابه دمن مر بها العلامة حرمه بن عبد الجليل فأنشأ يذكر أيام البوني:
دمن دعتك إلى القريض فإن تجب
فلمثلها يهدى القريض ويندبُ
وإذا سكتّ عن الجواب لشِرَّةٍ
فاضت فذاك من الإجابة أصوبُ..
كنا مع البونيِّ في عرصاتها
هالات بدر لم يشبها غيهبُ
فيها تجمَّعَ سيبويهِ ويوسفٌ
والكاتبي والاشعريّ وأشهبُ
شاقتك أطلال بلِين لهم وما
شاقتك سعدى إذ نأتْكَ وزينبُ.
ويوسف المذكور في الأبيات هو يوسف ابن أبي بكر السكاكي العلاّمة البلاغي المشهور صاحب كتاب “مفتاح العلوم” الذي يذكر فيه اثني عشر علما من علوم العربية، ت: 626 هـ، والكاتبي هو نجم الدين علي بن عمر القَزْوِيني الحكيم الرياضي المنطقي صاحب كتاب “الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية”، ت: 675هـ،
والشيء بالشيء يذكر، فقد ذكرتني الأبيات بقول المختار بن حامد في رثاء شيخه العلامة المختار بن ابلول الحاجي:
كنا بمدرسة المبروك آونة
نعشو إلى ضوء ذاك النير الندس
كنا نحلق بالمختار يؤنسنا
بما يسلسله الراوون عن أنس
وجابر وابن عباس فيذكرنا
من الحديث بما قد كان قبل نسي
وكان إحياء علم الدين ديدنه
دأبا وتجديد عاف منه مندرس
وللخليل وسيبويه دورهما
أيضا إذا خيض في علم الخليل وسيـ
وقول الشيخ محمدن اكليكم ابن محمدُّ بن حبيب بن محمذ فال بن متالي يذكر أيام دراسته على العلامة يحظيه بن عبد الودود في “بدر”:
ببدر تذكرت الغداة مجالسا
فدتها وقلت في الفداء المجالس
نجول بميدان العلوم ولم يكن
يجر لنا جراء ذاك المجال سو
وقول يسلم بن اكبيد في سرحة كان يحظيه يُدرس في ظلها طلابه:
أسرحة هذا مالك وابن مالك
ونافع تي حقا وتلك ومالكي
أتاك ولم تبدي لذاك بشاشة
كأنك ما إن قد حبيت بمالك
أتاك به يمن وأمن ورغبة
ونور به يزدان حسن جمالك
فلم تر عيني مثل جدك سرحة
“أبى الله إلا أن سرحة مالك..”.
وقد أثنى على العلامة المختار بن بون الكثير من العلماء والمؤلفين، فمن ذلك مثلا ما قال في شأنه مولاي عبد الحفيظ بن مولاي الحسن ملك المغرب الأسبق في مقدمة كتابه “القول المختار على الالفية والاحمرار”: “وبعد فهذا شرح لطيف وضعته لنفسي وللقاصرين من أبناء جنسي على ألفية بن مالك وعلى الحمرة المنسوبة لسيدي المختار بن بونا العالم بكل الفنون من أعطي مفاتيح العلوم، واطلع على منطوقها والمفهوم، الزاهد المتورع الناصح..”.
وقال عنه الشيخ أحمد بن الأمين العلوي في الوسيط: “تاج العلماء، الذي طوّق بحلى علمه كل عاطل، ووردت هيم الرجال زلاله، فصدر عنه كلهم وهو ناهل، ولا يوجد عالم بعده، إلا وله عليه الفضل الجزيل، بما استفاد من مصنفاته، وتلقى من مسنداته، ويكفيه أنه هو الذي نشر النحو بعد دفنه، وكفى الناس مشقات مؤنه، وكانوا لا يتجاوزون قبله ما في الألفية وشروحها، مع عدم معرفة الخطة التي يمكن للطالب أن يخزن في ذهنه بها ما يكون قريب التناول عند الحاجة إلى ذلك، حتى نظم لهم ما تخلف عن الألفية، مما تضمنه التسهيل، وألصق كل شذرة بما يناسبها، وضم إلى ذلك طرته المفيدة، وأتى على كل مسألة بالشواهد من كلام العرب”.
وقال العلامة سيدي محمد بن حبت القلاوي الشنقيطي في مقدمة كتابه “اختصار المواهب النحوية”: “العلامة المختار ولد بون الجكني نسبة إلى قبيلة من الشناقطة يقال لها تجكانت منسوبة إلى جاكر الأبر، وهي أعظم قبيلة من الشناقطة وأكثرهم علما، وهو بين العلماء كالبدر بين نجوم السماء، ما نيل في قطره نحو ولا أصول ولا بيان، ولا توحيد ولا منطق يحويه الجنان، إلا منه باللسان أو البنان.. وكان سببا لنشر العلم في تلك البلاد، من الحواضر والبوادي”.
وقال العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي في شرحه لوسيلة السعادة للمختار بن بون: “الشيخ الجكني الأجل، والحبر الفهامة المحقق الأحفل، مقلد جيد المتمات من سموط اللئالي المختار”.
وقال عنه الشيخ أحمد الصغير بن حمى الله المسلمي التيشيتي: “حامل راية علم الكلام في عصره، الواضع عنهم أعباء إصره”.
وقال الشاعر العالم المؤرخ المختار بن حامد في موسوعته: “هو القطب الشهير، والسراج المنير، ذو العلوم الغزيرة، والمآثر الكثيرة، شيخ المنقول، وإمام المعقول، الذي بلغ مرتبة الاجتهاد، وتغنى به الحاضر والبادي، حائز السبق في كل الميادين، بقواطع الحجج وواضح البراهين، عاش مائة وأربعين سنة فما سقطت له سن ولا نقص بصره، صاحبه العز والنصر منذ شبابه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، كان رحمه الله أول من وسع قراءة النحو في موريتانيا فشرح ألفية ابن مالك، وأضاف معها ألفيته المعروفة بالاحمرار، وشرحها أيضا فانسابت أرواح الطلبة على قراءة هذا السفر الصغير الذي كاد أن يحتوي على جميع علوم النحو، وانتفعوا به انتفاعا كثيرا”.
ومن أشمل تراجمه ما كتبه العلامة سيدي عبد الله بن سيدي محمد ابن انبوجه العلوي التيشيتي في شرحه لكتاب الوسيلة للمختار بن بون، وسأوردها هنا مع اختصار ما من مقال للدكتور الباحث سيدي أحمد ولد الأمير الذي أخرج هذه الترجمة النادرة من الكتاب المذكور الموجود في ثنايا مكتبة الحاج عمر الفوتي في المكتبة الوطنية بباريس، يقول سيدي عبد الله: “مؤلف هذه الوسيلة، وجامع ومحلي هذه العقيلة: الشيخ العالم العلامة، البدر الفهامة، حجة الإسلام وبدر التمام، القائم بالعلم أوان انقضاضه، والحامل لواءه في جحفل رياضه، الشيخ المختار بن سعيد بن بونَا المعروف بابن بونَا الجكني الرمضاني التكروري رحمه الله تعالى، قال في فتح الشكور: كان رحمه الله عارفا بأصول الدين، نحويا، لغويا، بيانيا، منطقيا، متفننا، مدرسا لعلوم العربية والمعقول من شيوخ العصر، ثاقب الذهن، حديد النظر، نجيبا بذولا للإنصاف سريع الجواب، سريع الرجوع إلى الحق، أديبا شاعرا محبوبا فائقا في الشعر. انتهى، وقال شيخنا في: “الإعلام بالمواطن والأعلام” في آخر باب النون: “كان المختار بن بونا هذا من تجكانت من زاوية المغرب الأقصى المشهورة بالعلم والدين، وكان إماما علامة مبرزا في علم العربية وعلم الكلام، وله اليد الطولى في غيرهما من العلوم، وأخذ عنه كثير من مشاهير علماء المغرب الأقصى”. قلت وحدثني الثقة أنه بلغ نحو خمسٍ وعشرين سنة ولم يلتفت إلى العلم ولا إلى ما يقاربه جملة ثم طلب العلم فكان أول طلبه له أنه كان ذات يوم في أهله فمر رجل من بني عمه بامرأة وبيدها لوح فطلبت من يفهمها معناه فقالوا لها: إن شئت التحقيق فابعثي إلى المختار بن بونا ليقرئك مضمون ما فيه، يستهزؤون به، فأرسلت إليه ففطن لما عمل به، فذهب إلى بطحاء في فلاة ولم يزل يطلب من الله ويتضرع إليه بطلب العلم حتى نام في خلال ذلك، فأتاه آت في المنام فجعل فاه في فيه، فقاء فيه حتى امتلأ جوف المختار، ثم استيقظ، فذهب إلى أهله فمكث يومين أو ثلاثة ولم يذق ذواقا ولا شرب شرابا ولا يكلم ديارا، ثم تكلم بعد ثلاث فاشتغل بالعلم فلم تنظر عينه سطرا إلا وحفظه، فصب عليه العلوم الوهبية، فأخذ أولا عن خديجة بنت العاقل أخت أحمد بن العاقل ولي الله، وكانت من أعلم أهل زمانها، وممن أخذ عنها غير المصنف: أخوها أحمد بن العاقل الدَّيْماني، كما أخبرني بذلك من شاهد مجيئه أعني أحمدْ شنجيطَ، فاشتغل أقوام بالأخذ منه، منهم: شيخنا ووالدنا سيدي بابا بن سيدي أحمد بن الطالب محمد أحمد الغلاوي وأخوه عبد الرحمن رحمه الله، فكلما اشتغل في بحث قال هذا ما في الكتب والذي عند أختنا خديجة كذا وكذا وهو أصح وأرجحُ. وممن أخذ عنها غير المصنف: حرمة بن عبد الجليل وأحمد بن عبدي بن الحاج أحمد والسالك بن عمار وعبد الجليل بن أجيون العلويون، وكان المصنف آية في العلوم؛ قيل له يوما: مالك لا تحج بيت الله الحرام؟ فقال: أنا حاجَة، والحاجة لا تسافر، مشيرا إلى ما فيه من تضييع الأحكام. وكأنه ممن يقول بمنعه من علماء المغربية، وقيل له: فتلقى السلطانَ فيُنوهُ باسمك، فأجاب بقوله: السلطان من لم يَرَ السلطان، وممن أخذ عنه من أعلام القبلة: حرمة بن عبد الجليل بن القاضي العلوي، أخذ الفقه والأصول والحديث والتفسير والعربية، وكان من أول تلامذته كما ذكره في الفتح، وفيه يقول من قصيدته:
فأنت أبو عذر العويص الذي نبَا
شَبَا كل فهم دونه وتثلما
فمن سهل التسهيل بعد صعوبة
ومن لخص التلخيص درّا منظما
وأغنى عن الشيخ السنوسي منطقا
وعلم كلام من يريد تكلما.
وممن أخذ عنه علامة الأقطار ونزهة الأعصار: عبد الله بن الحاج حمى الله بن أحمد بن الحاج المصطفى الغلاوي الأحمدي، أخذ عنه المنطق وأجازه في غيره وتوفي عبد الله بن أحمد سنة تسع ومائتين، وممن أخذ عنه أيضا عبد الله بن سيدي محمود بن الطالب المختار الحاجي علامة زمنه دفين القبة مع شيخه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي وتوفي سنة خمس وخمسين من هذا القرن، قرأ عليه النحو والبيان، وفيه يقول لما قدم المختار بن بونا تگانت وافدا سنة خمس وعشرين في ذي القعدة:
ما كنتُ أحجو من مُنَى المذنبِ
أن تطلُع الشمس من المغرب
ولم أكن أحسِبُ بدرَ الدجا
يجري مع الزُّهرِ على سبسَبِ
حتى بدا ابن بونَ في موكبٍ
لم يبق في الآفاق من غيْهَبِ
فمرحبا أهلا وسهلا به
وقلتِ الآلافُ من مرحبِ.
وممن أخذ عنه أيضا العلامة الأديب والجوهر الغريب: محمد غالي بن المختار بن فال بن أحمد تلمود البوصادي رحمه الله، وتوفي في سنة خمس وخمسين في ظني، وعلى يديه علم ما علم، وله شعر فيه لم يحضرني الآن، وممن أخذ عنه أيضا المختار بن لحبيب الشهير وعنه أخذ الوسيلة، وممن أخذ عنه أيضا حامل لواء العلم في زمنه محمد اديَيْجَه بن عبد الله بن حبيب الله الكمليلي المشهور.. وأجازه المؤلف في جملة من الفنون، وأمره بشرح الوسيلة وقال له: قم لشرحها بعد أن أمر عبد الباقي، وإلى هذا أشار ادييْجَه بقوله:
وشيخنا المختار أعني البوني
أجازني في جملة الفنون
وبعد ذا وسيلة السعاده
أمرني بشرحها زياده
والأمرَ ذا سأل عبدَ الباقي
شرحا لها وهو من الحذاق
أن قال: يا فلانُ قم للشرح
وحسبكم بأمره من شرحي.
وأخذ عنه كثير من العلماء غير من ذكرنا، وسمعت أن الشيخ محنض بابا من تلامذته وإن صح فهو ممن هو الآن بقيد الحياة من تلامذته، ولا أعلم غيره الآن بها سوى فحفُو وهو من تلامذته على الصحيح كما أخبرني به الثقة، قرأ عليه جميع الفنون، وأخبرني نفر من عشيرته أن ابن متالي وبلا إدابلحسني الآن بالگبلة من تلامذته مع أني لا أعلم أخبار الگبلة ولم أر من أهلها ألا من يحسنُ الأخبار، ولم ترها عيني، هذا مع اقتصار أهل الزمن اليوم على القليل من خبر العلماء الخاصة وأحرى العامة، وممن أخذ عنه من أحبار الأمة وأجلاء الأئمة: سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام العلوي أعلاهم الله تعالى آمين، أخذ عنه البيان وكان يقول له “تلميذ البيان” أخذ عنه في الگبلة قبل خروجه نحو الحج، وممن أخذ عنه ابنه: سيدي محمد بن سيدي عبد الله، قرأ عليه الألفيتين: الخلاصة وتكميل ابن بونا عليها من التسهيل الآتي ذكره.. وممن أخذ عنه السالك بن عمار العلوي، أخذ عنه كثيرا وعلى يديه تخرج: أخذ عنه النحو والتوحيد والمنطق والبيان والأصول والحديث والقواعد، وممن أخذ عنه العلامة: محمد بن أعمر الغلاوي المعروف بالنابغة الغلاوي، وكان هو وعبد الله بن سيدي محمود قرينين عنده وعليه قرأ النحو والفقه والحديث والكثير من العلوم.. نعم لما لقيت أخاه محمد المبرك صرح لي بأنه من تلامذته، وكان شيخنا محمد المبرك ممن يقتدى به لا سيما في فن التاريخ، وله نوادر وقعت بحضرته منها أن رجلا قال ذات يوم لزوجه وقد سألته شيئا: لك ما أحببتِ، فأخذت ثلاث تطليقات، ثم بكت، فقام يطلب فتوى من علماء زمنه في هذا فكلهم أفتى بالتحريم، حتى أتى المختار بن بونا فقص عليه القصص، فقال له: لم تطلق واحدة أحرى ثلاثا، إنما أعطيتها ما رضيت، والثلاث لا ترضى بها، وهي محبة لك والدليل على ذلك بكاؤها، ولما بلغ ذلك تلميذَه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي قال: إن ابن بونا يأخذ من مآخذ لا يؤخذ منها لجودة فهمه.. وكان كثير الممازحة لمن رافقه، وله من الكرامات ما لا يحصى، وكان كثير الكشف قلما يهمه أمر إلا وكوشف له به، ولقي كثيرا من الأولياء ممن ليس بأرضه كشفا، وكان كثير التواضع أخبرني غير واحد كالوالد عن بعض تلامذته أنه سئل المقام بأرض تگانت فقال: إنه لا يسكن إلا موضعا فيه دواوين هجاء الأقران له، وأنه مات يوم مات وهو أحد ذهنا وأجود فهما من ابن ثلاثين مع أنه توفي والله أعلم وعمره مائة وتسع سنين كما حدثني من يعتمد عليه في التاريخ ممن لقيه قبل وفاته بعام واحد، وحدثني الثقة أنه كان من الزهد بالمقام الأعلى والأدب وحسن الطبع الأجلى رحمه الله آمين.. ألف رحمه الله التآليف المفيدة وصنف التصانيف العديدة منها: وسيلة السعادة في معنى كلمة الشهادة: لخص فيها تآليف السنوسي في زيادات كثيرة عليها، والجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة وهي ألفيته الحمراء الآن المعروفة هي والخلاصة وما في حواشيها بطرة ابن بونا، ونظم التلخيص في البيان، ونظم مختصر السنوسي في المنطق ويسمى التحفة.. ونظم جمع الجوامع لابن السبكي في الأصول، ومقدمة في العوامل النحوية مفيدة ألفها للمبتدئين وهي أكثر علما من مقدمة ابن آجروم، ونظمه لأسماء الله الحسنى، وله قصيدة رائية في التوسل في غاية الحسن وكثير من الأنظام غير ما ذكرنا، وغير هذا من مصنفاته القائمة في الإفادة للناظر مقامه هو رضي الله عنه وانتشرت في البلاد واستوى فيها الحاضر والبادي، فاشتهرت في الگبلة حتى صارت الفنون لا تقرا إلا بها”.انتهى. من ترجمة ابن انبوجه.
ومن أشهر تلاميذه كذلك ممن لم يذكر في هذه الترجمة: سيدي عبد الله بن الفاظل البركي، ومحمد بن حبيب الله المعروف بالمجيدري والمامون بن محمذ الصوفي ومولود بن أحمد الجواد اليعقوبيون، والعبد بن المختار بن بوبه وابن مقامي والإمام بن محمذ بن أتفغ وأحمد مولود بن الشيخ سيد الامين الجكنيون، ومحمذ بن الهاشمي بن الأمين ومحمد فال بن امباركي ويا محمذ بن محمد الصوفي اليدمسيون، وأحمد المقري بن اجوان العلوي، وسيدي عبد الله بن أحمد دام الحسني، والمختار بن حبيب فال بن التلاميد، والمختار بن سيدي أحمد بن سيدي الهادي اللمتوني، وقاظينا بن الأمين بن أعمر بن بيج والمصطفى بن جمال الدين التندغيان، والإمام بن محمد آب الكنتي.
وفحفو المذكور في هذه الترجمة هو عبد الرحمن بن المختار بن الحبيب المسومي المعروف بفحفو وهو من أكثر طلابه ملازمة له وقد أثنى عليه ابن بونه في شعره فقال:
حلفت برب الراقصات إلى منى
لقد فاق هذا العصر كلهم فحفو
ففاقهم علما ونحوا دراية
وزاد على ذا أنه لم يكن يحفو.
ومن مؤلفات المختار بن بون كذلك: المطول في المنطق، وتبصرة الأذهان في نكت علم البيان، وسلم الطالبين في قواعد النحويين، ونظم الهجاء في المخارج والصفات، وعنديات المختار بن بون وهي فتاوى يقال إن سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم عرضها في سفره إلى المشرق على العلامة البناني فأقرها، ونظم درر الأصول وشرحه وقد حققه الأستاذ الباحث د محمد بن سيد محمد مولاي تحقيقا ترجم فيه للمؤلف ترجمة استفدت منها هنا، وقد شرح نظمه وسيلة السعادة عشرة علماء كما ذكر المختار بن حامد، أما الشروح والتعاليق على كتابه “الجامع بين التسهيل والخلاصة” فهي كثيرة جدا.
وللمختار بن بون الكثير من القصائد الحسنة منها الميمية التي توسل فيها بأسماء الله الحسنى على نمط لم يسبق إليه كما ذكر ابن حامد وقال إنها مشهورة في كافة أنحاء موريتانيا، ومطلعها قوله:
لك الحمد يا الله يا بارئ النسم
فصل على المبعوث للعرب والعجم
وصل على الرسل الكرام والانبيا
وأمة خير الأنبيا أفضل الأمم
وسلم عليهم أجمعين وقونا
على عمل يرضيك عنا بلا سأم
لقد جل ما أسديت ربي من النعم
إلينا وما دفعت عنا من النقم.
وله في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى رائيته المشهورة التي يقول في أولها:
لك الحمد يا الله يالواحد البر
فصل على من جاءه الفتح والنصر
إلهي كشفت الضر عن عبدك الذي
دعاك ونعم العبد إذ مسه الضر
دعوتك فاكشف عني الضر والبلا
ولست بنعم العبد يا من لك الأمر
لديك سواء في إجابتك الذي
دعا من به خسر ومن ما به خسر
فأيوب أواب دعاك لضره
وإني مسيء قد دعوتك مضطر
مناج بقلب كالحجارة قسوة
أو اشرس منها من له الملك والقهر..
وذكر المختار بن حامد أنها مشهورة بالبركة وإجابة الدعاء بها.
عاش المختار بن بونا عمرا مديدا حافلا بالمآثر، وقد نظم الأستاذ محمد عبد الرحمن بن الشيخ محمد المعمرين في هذه البلاد فقال:
وقطرنا له معمرونا
منهم فقيد النحو نجل بونا
مؤلف الجامع والقواعد
ومبلغ المأمول والعقائد
ودرر الأصول والمحقق
في حل مشكلات علم المنطق
وتحفة الصغار والمقدمه
مما من النحو لنا قد قدمه
وموته كانت بعام شكر
إذ غاب نجم من نجوم الفكر
عمر تسعة وأربعينا
ومائة ورزق البنينا.. .
وفي تحديد عمره وتاريخ وفاته اختلاف كثير، قال المختار بن حامد في حياة موريتانيا: “وتوفي رحمه الله سنة 1220هـ عن 120 سنة وقيل 140 وقيل 180 ولم يهرم ولم يتغير سمعه ولا بصره، قبره مشهور يزار وورثه بنوه الأخيار الأئمة الأبرار: محمد وضياء الدين وعبد الباقي وحماد اشفاغا الأمين”.
وقال سيدي عبد الله ابن انبوجه العلوي: “وحدثني الثقة عن تلميذه سيدي محمد بن سيدي عبد الله وغيره أنه مات وهو شيخ كبير وكلما ازداد كبرا ازداد ذهنه حدة وفهمه جودة، وتوفي رحمه الله فيما أخبرني غير واحد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن بالتيبراتن”،
وفي كتابَي معجم المؤلفين وهدية العارفين أنه توفي في حدود سنة 1230هـ.
وقال أبو بكر بن احجاب الفاضلي في نظم التاريخ:
وعام: “كاف” بعد: “رنْ” وألف
غال ابن بونا الحبر سيف الحتف.
ومن الأنظام الشائعة:
توفي ابن بونا عام شكر
عن ثقة رويت دون نكر
وعن ثقات عن ثقات عاشا
نيفا بعيد مائة معاشا.
رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيرا.
وسيتواصل بإذن الله تاريخ موريتانيا الإيجابي بأمر من شيخنا الشيخ علي الرضا بن محمد ناجي رئيس المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حفظه الله ورعاه وأيده بنصره.

شاهد أيضاً

العلامة حبيب الله بن القاضي الإديجبي / تاريخ موريتانيا الإيجابي

بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . صلى الله وسلم على رسوله …